فيلسوف سوري ترأس أكاديمية الفلسفة في أثينا 

01 يناير  .   13 دقيقة قراءة  .    894

g

من هو دماسيكيوس الدمشقي؟

ولد داماسكيوس (الدمشقي) في دمشق، واكتسب اسمه منها. درس الخطابة في مدينته قبل أن ينتقل وهو في عمر العشرين مع أخيه الأصغر جوليان إلى الإسكندرية ليستكملا دراستهما على يد ثيون السكندري، وذلك في بداية ثمانينيات القرن الخامس للميلاد، مما يضع تاريخ ميلاده حوالي العام 458م، ويرى الباحثون أن "داماسكيوس" قد حمل في طبعه وحياته الكثير من طباع مدينته الغنية والمعقدة في آن واحد، فقد كانت دمشق سبيكة ثمينة انصهرت فيها ثقافة الآراميين ثم الأنباط والهلنستيين، وشهدت النهضة والازدهار قبل اليونانيين بعصور.

تتلمذ داماسكيوس وشقيقه جوليان في مجال الخطابة على يد سيفيرانوس الدمشقي وغيره في دمشق، ثم استكمل دراسته في أكاديمية هورابوللو في الإسكندرية، الأمر الذي يعطي انطباعاً بأنه ينحدر من أسرة ميسورة الحال. فهي الأكاديمية التي كانت تجمع كبار الأساتذة والخطباء والفلاسفة، ليدرِّسوا جمهوراً مختلطاً من التلاميذ لجهة العقائد الدينية، بين وثني ومسيحي قادمين من مختلف أنحاء حوض البحر المتوسط.

اختلط داماسكيوس في صباه بهؤلاء الأساتذة والعلماء الكبار، ولم يمنعه اختصاصه في مجال الخطابة من أن يكون على تماس مع الفلاسفة والعلماء الآخرين الذين كانوا إما مدرسين مقيمين او زائرين للأكاديمية. وقد كان داماسكيوس تلميذاً متفرداً في تميزه بين تلامذة الأكاديمية سواء من المسيحيين أو الوثنيين وذلك في كافة المجالات التي درسها. وقد تم تقديمه وتعريفه بكبار الوجهاء في المدينة على أنه أحد أنجح التلاميذ وأنجبهم.

ونظراً لتميزه تم تكليفه بمهام لا يكلف بها إلا كبار الخطباء والمتحدثين؛ فقد كلف بعد وصوله إلى الإسكندرية بفترة ليست ببعيدة بأن يقدم خطبة تأبين السيدة آيديسيا أرملة الفيلسوف العظيم هيرمياس، وهي دمشقية مثله، وكان ذلك أمراً لا يسند إلى يافع في عمره بأي شكل من الأشكال.

رحلات داماسكيوس الدمشقي

وقد تصاعدت حدة التوتر تدريجياً في المجتمع الإسكندري، فاحتدمت النقاشات بين التلاميذ الوثنيين والمسيحيين وتصاعدت حدتها ولهجتها، ثم اندلعت أعمال عنف شديدة بين الطرفين، أعقبتها حملة اعتقالات واضطهاد وتقصّي وتعذيب لكبار الفلاسفة الوثنيين وتلاميذهم، وتوارى بعضهم عن الأنظار كإيزيدور (معلم دماسكيوس) الذي اختبأ في منزله. لكن الظروف العصيبة استمرت فترة طويلة، الأمر الذي دفع بداماسكيوس لأن يرافق الفيلسوف إيزيدور من الإسكندرية في رحلة برية إلى أثينا عام 489م.

استمرت رحلة داماسكيوس وإيزيدور على امتداد ثمانية شهور، زار فيها الرجلان العديد من المدن مروراً بغزة حيث قابلا الباحث آنطوني الإسكندري، ثم بصرى الشام حيث قابلا دوروس العربي الذي استضافهما لفترة طويلة ودعاهما لجولات في مدن حوران المقدسة. ومنها  نهر الستيكس المقدس في أعلى وادي اليرموك.

ومن ثم انتقلا إلى بعلبك في فينيقيا اللبنانية حيث تتبعهما الإضطهاد الإسكندري وتم اعتقالهما وتعذيبهما، ثم أخلي سبيلهما بفضل كياسة داماسكيوس ومهاراته الديبلوماسية وعلاقاته العامة، بعد ذلك انطلق الرجلان إلى حمص وزارا معابدها، قبل أن يسارعا بالسفر إلى مدينة أفروديسياس في غرب الأناضول حيث اجتمعا باستاذهما اسكليبيودوتس والذي نظم لضيفيه زيارات في أنحاء آسيا الصغرى بلغت فيرجيا في اتساعها. لاحقاً سافر الاثنان من أفروديسياس إلى اليونان.

اهتم داماسكيوس وإيزيدور بالطقوس المقدسة لكل منطقة مرا بها، فنقل لنا الدمشقي أساطيرهم ومعتقداتهم وغرائبهم بالإضافة إلى طقوس عباداتهم، فقد غادر الإسكندرية خطيباً، لكن عندما وصل بصحبة إيزيدور إلى أثينا كان فيلسوفاً. ففي لحظة تأمل وجد أن الخطباء مثله لا يقدمون للمعرفة سوى تنميق للحقائق بتحريك ألسنتهم لا غير، فيما يجهد الفلاسفة والعلماء ويناضلون للفعل أكثر من القول. وكانت هذه الأفكار بالترابط مع رفقة إيزيدور في رحلتهما أهم العوامل في تحول الخطيب إلى تلميذ في الفلسفة، تتلمذ فيها على يد هيرمياس وابناه آمونيوس وهيليودوروس، ومن ثم  مارينوس وزينودوتوس وإيزيدور.

إنجازات داماسكيوس الفلسفية

لم يكن دماسكيوس ضيفاً عابراً على الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، فتبحر في أعماقهت وفروعها، وأثبت جدية وتفوقاً على أقرانه ومعاصريه بشهادة الكثيرين. وتدرج في مستوى معرفته وإسهامه في نشر المعرفة حتى بلغ المنصب الذي شغله معلماه مارينوس وإيزيدور، وهو كرسي أفلاطونفي إدارة الأكاديمية الفلسفية الأفلاطونية في أثينا.

عمل الدمشقي على إعادة هيكلة الأكاديمية وإصلاحها من التدهور الذي كانت قد بلغته مذ غادر بروقليوس كرسي الإدارة في 485م، ويعتقد بأنه قد تأثر في ذلك بنجاح أسكليبيودوتس في تحويل مدينة أفروديسياس إلى مدينة تعج بالثقافة الهلنستية.

نجاح داماسكيوس هذا لم يرق أبداً للامبراطور جستينيان، فأمر جستينيان بإغلاق الأكاديمية. فلجأ داماسكيوس برفقة ستة من زملائه إلى الأراضي الفارسية، ومن ثم عادوا إلى الإمبراطورية الرومانية إثر توقيع معاهدة سلام بين خسرو كسرى الفرس وجستينيان إمبراطور بيزنطة، ومن المعتقد ان داماسكيوس عاد إلى الإسكندرية وكرس نفسه للكتابة هناك. وعندما تقدمت به السن أبى إلا أن يحط الرحال في سوريا أرض أجداده حيث توفي في مدينته دمشق.

وقد عرف من مؤلفاته غير هذا الكتاب "حياة إيزيدور":

-         كتاب "مسائل وحلول حول المبادئ الأولى" وهو كتاب يتعمق في طبيعة روح الإنسان والخالق.
-         كتاب "دراسات في كتاب بارمينيديز لأفلاطون ".
-         كتاب "دراسات في كتاب فايدو لأفلاطون " والذي ينسب خطأ إلى أوليمبيودوروس الإسكندري.
-         كتاب "دراسات في كتاب فيليبوس لأفلاطون".
-         كتاب "دراسات في كتاب تيمايوس لأفلاطون". وهو مفقود.
-         كتاب "دراسات في كتاب دي كويلو لأرسطو".

تتلمذ على يد داماسكيوس العديد من الفلاسفة الأكثر شهرة واحتراماً مثل سيمبليكوس الذي اشتهر بدراسته لكتابات "أرسطو" و"إيبيكتيتوس" و"إيولاميوس". ولم تقم للأفلاطونية قائمة من بعد عصر داماسكيوس فكان هذا الدمشقي بشخصه فارس الفلسفة الأفلاطونية الجديدة الأخير، وبصيص آخر شفق غروب لشمس ذلك العصر الجميل، الذي تعايشت فيه ثقافات شعوب اليونان وآسيا الصغرى وسوريا ومصر بنسيج واحد بنّاء، مثّل عصر نهضة منقطعة النظير تمثل الأساس للكثير من العناصر الفنية والأسس العلمية لنهضات شعوب العالم الأخرى.

من كتاب "حياة إيزيدور" - ترجمة وتقديم عادل الديري - تدقيق تيسير خلف - دار التكوين 2015

  10
  5
 1
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
باسل أسعد
15 ديسمبر
يا سلام
  2
  2
 1